5551.jpg

ch 10

الفصل العاشر : محاكمة لا تتوفّر فيها الشروط الدنيا للمحاكمة العادلة

 

اقتضى الفصل 12 من الدستور التونسي "أنّ كلّ متهم بجريمة يعتبر بريئا إلى أن تثبت إدانته في محاكمة تكفل له فيها الضمانات الضرورية للدفاع عن نفسه" و قد اشتكى المحامون من خرق أحكام الفصل المذكور و عدم توفر أدنى شروط المحاكمة العادلة لتعمّد المحكمة مخالفة أحكام القانون و المساس بمصالح المتهمين الشرعيّة و هضم حقوق الدفاع.  

 

1.10- الإصرار على تفكيك القضيّة و مخالفة أحكام الفصلين 130 و 131 من م إ ج و الفصل 55 من المجلة الجنائيّة :

 

أكد المحامون منذ أوّل وهلة أنّ ما اتخذ من قرارات تفكيك من ناحية و توحيد و ضمّ من ناحية أخرى لم تكن تخضع إلى أحكام القانون بل كانت تتم في مخالفة صريحة لأحكام الفصلين 130 و 131 من م إ ج و 55 من المجلة الجنائيّة و ذلك لغايات أمنيّة و سياسيّة لا علاقة لها من قريب و لا من بعيد بالإجراءات و القوانين الجاري بها العمل. و لقد اشتكى المحامون من أنّ تفكيك قضيّة النهضة إلى مجموعة قضايا و توزيعها على محاكم مختلفة عمليّة مبيّتة تحجّرها أحكام مجلة الإجراءات الجزائية و مقتضيات المجلة الجنائية لأنّ وحدة الوقائع   و الأطراف و الموضوع لا تسمح بأيّة تجزئة أو تفكيك بل تحتّم و تفرض توحيد الإجراءات    و ضمّها إلى بعضها بعضا حماية لمصلحة المتهمين الشرعيّة و قد إنجرّ على تفكيك القضية الواحدة الغير قابلة للتجزئة إلى قضايا متعدّدة إضرارا فادحا بحقوق المتهمين و مصالحهم إذ وجد المتهم نفسه في القضيّة عدد 76110 على سبيل المثال يواجه بتصريحات متهم محال في القضية عدد 76111 دون أن يتمكن من مواجهته و إجراء مكافحة معه من ذلك تأسيس الحكم عدد 76111 في حق عبد الواحد السايح على تصريحات محمد نجيب اللواتي  المحال في القضية عدد 76110 (الحكم عدد 76111 ص 146) في حين تمّت إدانة محسن الجندوبي     و رضا البوكادي المحالين في القضية عدد 76111 بتصريحات الهادي الغالي المحال في القضية عدد 76110 (الحكم عدد 76111 ص 149). لقد أثبت تفكيك قضية النهضة إلى قضايا متعددة تعتمد فيها نفس التصريحات و المحاضر و المحجوز لتصدر المحكمة أحكاما بناءا على شهادات أطراف مشمولة في قضايا أخرى و بناءا على أحداث ووقائع محل تتبّع لدى محاكم أخرى و بناءا على محجوز موجود على ذمة هيئات أخرى كما أثبت توحيد الإجراءات مع بعض القضايا من مثل قضية متفجرات الكباريّة و قضية مركز 7 نوفمبر و قضية مجموعة الحبيب الأسود أنّ قرارات التفكيك و الضمّ لم تكن محكومة بمعايير قانونيّة و لكن بمعايير أمنيّة و سياسيّة إذ كانت المحكمة في حاجة لإثبات وجود متفجرات في الملف فضمّت قضيّة جماعة الكبارية و لما كانت في حاجة لإثبات الإعتداء على أحد مراكز الأمن ألحقت شاكر الجوالي    و من معه و لما كانت في حاجة للتقليص من عدد المحالين أفردت هذا و ذاك بالتتبّع. كما ووجه البعض بمحجوز تعذر عرضه عليه لأنّه موجود على ذمّة قضيّة أخرى في حين وجد البعض نفسه يواجه تهما تأسّست على وقائع و أحداث نسبت لمتهمين آخرين لا علاقة له بهم لا من قريب و لا من بعيد الأمر الذي كشف أنّ قرارات الضم و توحيد الإجراءات المتخذة مثلها مثل قرارات التفكيك كانت تخضع لمتطلبات الدعاية الإعلاميّة و السياسيّة الملازمة لسير الأبحاث من ذلك مثلا قراره ضم قضيّة جماعة المتفجرات بالكبارية و إلحاقها بملف القضية عـ76111ـدد  كضم القضية التحقيقية عدد 7/17715 المتعلقة بالهجوم على مركز الأمن 7 نوفمبر و إحالة البعض من قيادات حركة النهضة مثل زياد الدولاتلي و علي العريض و شكري بحريّة و المرحوم سحنون الجوهري و غيرهم مع جماعة "طلائع الفداء" كل ذلك لحاجة الباحث لإثبات التهمة على البعض بأفعال ارتكبها غيرهم ممّن لا تربطه بهم أيّة علاقة سياسيّة أو تنظيميّة و ما دامت عمليّة إثبات التهمة ضدّ حركة النهضة(72) تتطلب وجود أسلحة مهما كانت بسيطة و متفجّرات و دعوات لاعتماد العنف فلا مانع من إحالة نبيل الواعر و مجموعته مع زياد الدولاتلي كما أنّه لا مانع من اعتماد شريط مسجّل للحبيب الأسود لإدانة المرحوم سحنون الجوهري و علي العريض كل ذلك رغم أنّ لسان الدفاع طالب منذ أوّل وهلة بتفكيك القضيّة إلى ثلاث قضايا – قضية حركة النهضة و قضية طلائع الفداء و قضية المتفجرات لأنه لا شيء يربط بينها كتوحيد الإجراءات في قضية النهضة و ضمّها إلى بعضها البعض لأنّها غير قابلة للتجزئة و التفكيك.

علما و أنّ قرارات التفكيك جاءت في العديد من الحالات غير معللة أصلا مثلما هو الشأن بالنسبة لكل من القرار المتعلق بالأستاذ محمد النوري و العقيد أحمد الغيلوفي(73). و قد أوضح المحامون خطورة التناقض الذي طبع القرارات المذكورة إذ في حين تبرّر عمليّة التفكيك و التخلي بأنه لا مانع قانونا من تفكيك القضية و إفراد البعض بالتتبّع..!! تمّ تبرير قرار ضمّ الإجراءات لبعضها البعض و مطالبة قاضي التحقيق العدلي بالتخلي لفائدة التحقيق العسكري بالقول "لأنّ الجرائم المخلة بأمن الدولة تتكوّن في معظمها من أفعال مترابطة و متلاحقة يتجه ضمّ الإجراءات في شأنها عملا بأحكام الفصل 131 من م إ ج ..." (الحكم عدد 76111 ص147) و يكفي مقارنة تعليل هذا القرار بتعليل قرارات التفكيك للتأكد من خطورة التناقض الذي هيمن على التعاطي مع الملف بما دفع القضاء لاتخاذ القرار و نقيضه .

و لقد عاين كلّ متتبع لسير القضية إصرار المحكمة على رفض الإستجابة لطلبات المحامين سواء مشافهة أو كتابة الهادفة لتوحيد الإجراءات بالنسبة لقضيّة حركة النهضة و تفكيك الملف بالنسبة لبقيّة المجموعات(74) ليفاجؤوا صلب الحكم باعترافها بجديّة الطلب الذي رفضت الإستجابة له إذ جاء في نصّ الحكم " و حيث ثبت أنّ المتّهمين نبيل الواعر و فوزي الجدي.لم تكن لهم علاقة بتنظيم طلائع الفداء و النهضة و قد تولوا فيما بينهم تكوين جمعيّة أطلق عليها اسم الإنقاذ " (الحكم عدد 76111 ص 147)  كما جاء فيه" و حيث أنّه لا شيء بملف القضية من شأنه أن يفيد أنّ المتهمين نبيل الواعر و فوزي الجدي قد عقدوا العزم و تقارروا على الإعتداء على أمن الدولة الداخلي خصوصا و أن الأبحاث لم تكشف أنّهم نفذوا عمليّة سرقة المتفجرات بإيعاز من تنظيم طلائع الفداء أو النهضة..." (الحكم عدد 76111 ص 148) و حيث جاء نصّ الحكم مثبتا لانعدام أيّة علاقة بين مجموع التنظيمات المحالة صلب ملف واحد "و حيث أنّ حركة النهضة و تنظيم طلائع الفداء و سرايا الشهداء و الإنقاذ هي أنظمة سريّة تعمل في الخفاء و غير خاضعة لأيّ إجراء قانوني يثبت وجودها في الخارج..." (الحكم عدد 76111 ص 151) و قد أصدرت المحكمة أجكامها في القضيّة بناءا على أن كلّ مجموعة مستقلة عن الأخرى استقلالا تامّا و لا رابط بينها



(72)  انظر الملحق ص ص 118-120 (مراسلة أمن الدولة للوكيل العام مدير القضاء العسكري) 

(73)  انظر الملحق السابق (قراري تفكيك للنوري و الغيلوفي)

(74)  انظر الملحق ص ص 121-135 ( تقارير الأستاذ شقرون بتاريخ 8 و 18 و 27 جويلية 1992)

2.10- استنطاق المتهمين فرادى في غياب بعضهم البعض

إقتضى المشرع التونسي صلب الفصول 141 و 143 و 144 أنّه على على من يقع تتبّعه من أجل جناية أو جنحة الحضور شخصيّا بالجلسة و أن الإستعانة بمحام وجوبيّة أمام المحكمة الجنائيّة و أنّ المرافعات تكون علنيّة و بمحضر ممثل النيابة العموميّة و الخصوم و تعرض أوراق القضيّة (بحضور جميع الأطراف) و تجري المكافحات اللازمة و ينادى على الشهود و الخبراء و تقدّم أوجه التجريح فيهم و لممثل النيابة و القائم بالحق الشخصي و المظنون فيه أن يطلبوا تلقي شهادة شهودهم و فاجأت المحكمة هيئة الدفاع بإصرارها على استنطاق المظنون فيهم فرادى في غياب بعضهم البعض رغم أنّ المشرع أوجب أن تتمّ كل الإجراءات بحضور جميع الأطراف (المظنون فيه سواء كان فردا أو جماعة و النيابة العمومية و القائم بالحقّ الشخصي و الشهداء و الخبراء إن وجدوا...) وهو ما حال دون المحكمة و دون إجراء المكافحات اللازمة كما تمّ رفض سماع كلّ الشهود الذين طلب بعض المظنون فيهم و المحامون سماعهم و التحرير عليهم في مواضيع محدّدة و دقيقة لها تأثير كبير على وجه الفصل في القضيّة علما و أنّ الفصل 151 من م إ ج اقتضى أنه لا يمكن للحاكم أن يبني حكمه إلا على حجج قدّمت أثناء المرافعة بحضور جميع الخصوم. و قد عللت المحكمة قرارها برفض إحضار جميع المتهمين بالجلسة بأنه " بالنظر لضخامة عدد المتهمين الموقوفين و ما يتطلبه إحضارهم في كل جلسة مع بعضهم من إجراءات أمن غير عاديّة فقد رأت المحكمة استنطاقهم   فرادى... (75)".

3.10- إعتماد أطباء غير محايدين لإنجاز الإختبارات

و إذا كان المشرع أوجب صلب الفصل 146 من م إ ج إحضار الخبراء و التحرير عليهم و السماح بالتجريح فيهم فإنّ المحكمة رفضت في أغلب الحالات عرض المظنون فيهم على الفحص الطبّي للتثبّت من جديّة ما تمسّكوا به من تعرّضهم للتعذيب (من عدمه) و حتى عندما أذنت بعرض البعض منهم على الفحص الطبي لم تمكنهم من فرصة مناقشة قرار تكليف الخبراء و لا من التجريح فيهم طبق القانون و قد سبق لقاضي التحقيق أن قرر تكليف السيد "هيثم مقنّم" وهو موظف بالسجن المدني بتونس بإجراء إختبارات على البعض ممن طلبوا عرضهام على الفحص الطبي رغم أنّ السيّد "مقنم" ليس خبيرا معتمدا لدى المحاكم و لا هو حسب المحامين طبيب مرسّم بجداول هيئة الأطباء علاوة على أنّه موظف بوزارة الداخلية بحكم عمله بالسجن المدني المطلوب و قد اعتمد قاضي التحقيق و المحكمة تقاريره كما اعتمدت تقارير لجنة من الأطباء لم يقع عرضها على المظنون فيهم و محامييهم و لا تمكينهم من التجريح فيهم طبق القانون وهو ما يفسّر إلى حدّ كبير ما جاءت عليه الإختبارات المنجزة من طرف اللجنة المذكورة من غموض و لبس علما و أنّ الدكتور بن موسى عضو اللجنة الطبيّة المنتدبة طبيب ضابط بالجيش و موظف بالمستشفى العسكري يشغل خطة رئيس قسم في حين أن الدكتور بن يعقوب موظف بوزارة الصحة بإدارته لأحدى المؤسسات الصحيّة الهامّة بالبلاد الأمر الذي يفسّر ما إتهمهم به لسان الدفاع من فقدان الحياد و الإستقلالية اللازمين وهو ما خوّل للمحكمة لاحقا تعليل حكمها للردّ على ما تمسّك به المحامون من بطلان محاضر الأبحاث لتعمّد الباحث إعتماد التعذيب عند تحريرها بالقول "بأنّ الفحوص لم تحدّد مصدر الآثار و تاريخها ممّا يتعذر معه على المحكمة إثبات منشئها و ظروفها..."(77) كما جاء في الحكم عـ76111ـدد " و حيث أنّه بالنسبة للعنف و التعذيب المثار من طرف غالبيّة المتهمين... كما أنّ اللجنة التي تمّ تسخيرها بفحص من تعللوا بهذا الدفع قد أثبتت في تقاريرها وجود بعض الآثار بالنسبة للبعض من المتهمين دون أن تجزم بمصدرها أو تاريخ حصولها مما يجعل الجزم بوقوعها أثناء التحقيق أمرا متعذرا... "(78).

و حيث يذكر المحامون النائبون أنهم طالبوا إثر ما أحاط بالتقارير الطبيّة من غموض  و لبس بإرجاع مأموريّات الإختبار للأطباء و مطالبتهم برفع اللبس و بيان تاريخ ما عاينوه من آثار و أسبابه كما طالبوا باستدعاء الخبراء المذكورين و التحرير عليهم في الجلسة طبق القانون و لكنّ مطالبهم ووجهت كالعادة بالرفض و قد فوجئوا صلب الحكم بأنّ المحكمة عللت رفض هذه الطلبات بخلاف ما عللت به رفضها الأخذ بما أثاره المظنون فيهم من تعرّض و استهداف للتعذيب على يد الباحث إذ جاء في الحكم عـ76110ـدد "أمّا في خصوص ما تمسّك به لسان الدفاع في طلب إحضار الخبراء المحررين للتقارير الطبية لسماعهم بالجلسة فيعتبر دفعا غير ذي فائدة لأنّ تقاريرهم كانت واضحة و مقنعة..."(79) و بين إعتبار المحكمة للإختبارات غامضة يتعذر معه عليها إعتمادها و بين تقدير أنها كانت واضحة و مقنعة لنبحث عن الحقيقة الضائعة بين طيّات الملف و تقارير الأطباء و الأسانيد المتناقضة التي لا يقبلها عاقل.

4.10- المحكمة تبرّر التعذيب

اقتضت الإتفاقية الدولية المناهضة للتعذيب و غيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللإنسانيّة أو المهينة صلب المادة 15 " تضمن كل دولة طرف عدم الإستشهاد بأيّة أقوال يثبت أنّه تمّ الإدلاء بها نتيجة التعذيب كدليل في أيّ إجراءات" و بعد أن عرف إعلان الأمم المتحدة حماية جميع الأشخاص من التعرض للتعذيب الذي اعتمدته الجمعية العامة يوم 9 ديسمبر 1975 التعذيب بأنّه "أي عمل ينتج عنه ألم أو عناء شديد جسديّا كان أو عقليا تمّ إلحاقه عمدا بشخص ما بفعل أحد الموظفين العموميين أو بتحريض منه لأغراض مثل الحصول من هذا الشخص أو من شخص آخر على معلومات أو إعتراف أو معاقبته على عمل ارتكبه أو يشتبه في أنّه إرتكبه أو تخويفه أو تخويف أشخاص آخرين...(80)" كما اقتضى الإعلان المذكور أنّه "إذا ثبت أن الإدلاء ببيان ما كان نتيجة للتعذيب أو غيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانيّة أو الحاطة بالكرامة لا يجوز إتخاذ ذلك البيان دليلا ضدّ الشخص المعني أو ضدّ شخص آخر في أيّة دعوة (81) ".

و بعد أن نصّ الفصل 32 من الدستور التونسي على أنّ المعاهدات المصادق عليها بصفة قانونيّة أقوى نفوذا من القوانين و رغم مصادقة الحكومة التونسيّة على الإتفاقيّة الخاصّة بمناهضة التعذيب بموجب القانون عدد 79 لسنة 1988 المؤرّخ في 11/7/1988 و الواقع نشرها بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية بموجب الأمر عدد 1800 لسنة 1988 المؤرخ في 20/10/1988 إنتظر المحامون و الملاحظون أن تأخذ المحكمة بعين الإعتبار عند مباشرتها النظر في الدعوى و عند صدور حكمها الإتفاقيّة المذكورة و أحكامها  و لكنّ الجميع فوجئوا بعكس ذلك تماما إذ و أمام تمسّك أغلب المظنون فيهم بأنّ التصريحات المسجلة عليهم أمام الباحث الإبتدائي انتزعت منهم تحت التعذيب ردّ عليهم رئيس المحكمة التي نظرت في القضيّة       عـ76111ـدد وهو السيّد محمّد الحبيب بن يوسف بقوله "تحبّوا تقلبوا الدولة و ما يعذبوكمش..." و الحال أنّه يعلم قبل غيره أنّ المادّة 3 من إعلان حماية جميع الأشخاص من التعذيب... ينصّ صراحة " و لا يسمح باتخاذ الظروف الإستثنائيّة مثل حالة الحرب أو خطر الحرب أو عدم الإستقرار السياسي الداخلي أو أيّة حالة طوارئ عامّة أخرى ذريعة لتبرير التعذيب..." و قد وصل الأمر بالسيد رئيس المحكمة المشار إليه آنفا بمواجهة المظنون فيهم بقوله "هذا كلام فارغ الكلام الصحيح في المحاضر..." فتحوّل بذلك القاضي المفروض فيه الحياد و الذي لا سلطان عليه إلا للقانون و الذي لا يقضي بعلمه الشخصي إلى طرف في النزاع بل طرف متحامل على المظنون فيهم يبرّر التعذيب و يبحث لمرتكبيه عن الأعذار و المسوغات رغم أحكام الدستور و القانون و قد اشتكى المحامون من انحياز القاضي المذكور و عدم حياده صلب العديد من العرائض و اللوائح و أمام ما تمسّك به البعض لإثبات التعذيب من مطالبة بإضافة تقرير اللجنة التي ترأسها السيد رشيد إدريس و التي جاء فيها أن سبعة من المشبوه فيهم المشمولين بالبحث في القضية توفوا تحت التعذيب(82) لم يجد القاضي المذكور من جواب يبرّر به رفضه الإستجابة للطلب إلا قوله "يموتوا سبعة أو مائة أنا ما يهمنيش" علما و أنّه سبق لقاضي التحقيق (عيّاد بن قايد) في إطار نفس المسعى لتبرير التعذيب أن سجّل صلب أحد محاضر الإستنطاق "هذا ما تحرّر عليه و بعد المصادقة و إعلامه بإصدار بطاقة إيداع ضدّه أمضى معنا و الكاتب و بعد الختم و قبل الإمضاء و باستفسار صاحب هذه البطاقة عن الجبيرة الموجودة بذراعه الأيمن و كذلك بعض الأخداش بذراعه الأيسر و الضميدة الموجودة بأسفل صدره أجاب بأنّه أثناء البحث معه إثر إيقافه من قبل أعوان الحرس الوطني ( في حين أنّ محضر البحث محرر من طرف أعوان إدارة أمن الدولة ) شعر بجسامة الأفعال التي قام بها   و بالندم الذي أصبح مسيطرا عليه الأمر الذي جعله يدخل في حالة غيبوبة و لم يعد يشعر معها بما يفعله هذا و قد علم فيما بعد أنّه ألقى بنفسه من الطابق الثاني بمركز الحرس ببن عروس(83) و انظروا كيف لم ينتبه قاضي التحقيق للحالة الصحيّة للمظنون فيه إلا بعد إنهاء الإستنطاق في غياب المحامين و بعد إصدار بطاقة إيداع ضدّه و انظروا كيف سعى قاضي التحقيق لتبرير الآثار البادية للعيان وهي آثار تدلّ على اعتداءات خطيرة جدّا و انظروا كيف لم تجلب انتباه قاضي التحقيق لما صرّح له به المظنون فيه من أنه تمّ إيقافه و بحثه من طرف أعوان و حرس بن عروس و الحال أن المحضر الذي بين يديه و الذي أحيل بموجبه المظنون فيه على أنظاره محرّر من طرف إدارة أمن الدولة كما أنّ أعوان الحرس ببن عروس لا صفة لهم لإجراء الأبحاث لأنّ قاضي التحقيق أناب غيرهم لإجراء الأبحاث. 



(75)  الحكم عدد 76111 ص 141

(77)  الحكم عدد 76110 ص 218

(78)  الحكم عدد 76111 ص 142

(79)  الحكم عدد 76110 ص 218

(80)  إعلان الأمم المتحدة حماية جميع الأشخاص من التعرض للتعذيب المادة 1

(81) إعلان الأمم المتحدة حماية جميع الأشخاص من التعرّض للتعذيب المادة 120

(82)  انظر الملحق ص 136 (تقرير رشيد إدريس بتاريخ 11/9/ 1991 )

(83)  الملحق ص ص 137-138 (محضري بحث و  استنطاق الحبيب الحواشي في 6/11/1991)

 

 

5.10- محكمة تهين المظنون فيهم :

اقتضت أحكام الدستور أنّ المتهم بريء إلى أن تثبت إدانته في محاكمة يكفل له فيها حقّ الدفاع عن نفسه كما اقتضى الفصل 69 من م إ ج أنّه يجب أن يتيح الإستنطاق لذي الشبهة فرصة إبعاد التهمة عنه أو الإعتراف بها و على خلاف الدستور و القانون كان رئيس الجلسة يعمد لمقاطعة المظنون فيهم و رفض تمكينهم من فرصة إبعاد التهمة عنهم بل سجّل المحامون أنّه كان يسعى لإنهاء الجلسة في أسرع وقت ممكن و لم يكن يهمّه ما إذا كان ذلك يعطيه صورة واضحة عن الحقيقة أم لا و قد عبّر عن رغبته تلك بقوله ردّا على أحد المظنون فيهم الذي طالب الرئيس بتمكينه من فرصة للجواب في ظروف نفسيّة طيّبة "آش من راحة نفسيّة و أنت قائم بأعمال تستوجب الإعدام...(84)". في حين أنّه لم ير مانعا من التهكّم على بعض المظنون فيهم و إهانتهم مثلما حصل عندما توجّه لأحدهم بقوله " أنت رامبو ".

6.10- عندما يشارك في الحكم من سبق له إبداء رأيه في الموضوع

حجّر المشرّع على من سبق له إبداء رأيه في الموضوع محل النظر المشاركة في الحكم فيه و ذلك حماية لمصالح المتهمين الشرعيّة و حتى لا ينظر القاضي في ملف وهو تحت تأثير رأى سبق له التصريح بها و القضاء على ضوئها و لقد تمسّك المحامون في القضيّتين عدد 76110 و 76111 بأنّ أعضاءا من هيئة المحكمة سبق لهم إبداء رأيهم في قضايا أحيلت على نفس المحكمة بموجب قرارات التفكيك فكان الموضوع و التهم واحدة و المحكمة واحدة و لا ينتظر ممّن قضى بإدانة شخص بارتكاب بعض الأفعال أن يقضي ببراءة زميل له اتهم بارتكاب مثلها في نفس الظروف و الملابسات و بناءا على نفس الأبحاث و الإستنطاقات من ذلك أنّ الرائد ميلود شتايتيّة الذي شارك في إصدار الحكم في القضيّة عـ76110ـدد سبق له المشاركة في الحكم في قضيّة متفرّعة عنها بموجب قرار تفكيك كما سبق للنقيب منصف الدين الجازي و كمال الجويني أن شاركا في الحكم في القضية عـ75730ـدد و قد بررت المحكمة رفضها تعويض الأعضاء المذكورين بآخرين بدعوى "أنّ موضوع هذه القضية مغاير للقضية المشار إليها..." رغم اعترافها بأنّ القضيّة الثانية متفرّعة عن الأولى(85) في حين سبق لحسن بن فلاح الذي ترأس دائرة الإتهام أن نظر في قضيّة باب سويقة.

7.10- المحكمة تصدر حكمها بناءا على قرار دائرة اتهام محل طعن أمام محكمة التعقيب

خوّل المشرّع صلب الفصل 120 من م إ ج الطعن بالتعقيب في قرارات دائرة الإتهام طبق أحكام القانون و بعد أن طعن بعض المظنون فيهم في قرار دائرة الإتهام عدد 46931    و قدم المحامون لتأييد ذلك شهادة في النشر مسلمة من كتابة محكمة التعقيب طالبوا بإيقاف النظر في القضية حتى تبتّ محكمة التعقيب في المطلب المذكور و لكن مطلبهم جوبه بالرفض وواصلت المحكمة النظر في القضيّة و أصدرت حكمها قبل صدور القرار التعقيبي و قد عللت المحكمة موقفها "و حيث أن الدفع المبني على الطعن لدى محكمة التعقيب... هو دفع غير جدّي ذلك أنّه فضلا عن مخالفته لأحكام الفصل 259 من م إ ج فقد تبيّن أنّه لم يقع الطعن في ذلك القرار إلا في المرحلة الأخيرة من المرافعة و بصرف النظر عن وقوع الإعلام بقرار الإبطال من عدمه أصبح بطبيعته في حكم الملغى لمضي ما يزيد عن العام عن صدوره(86)" و قد جاء هذا الردّ ليؤكد عدّة حقائق :

أ) أنّ المحكمة العسكريّة خولت لنفسها الحلول محل محكمة التعقيب و الحكم بدلا عنها في مدى استيفاء مطلب التعقيب لكل الصيغ الشكلية و مدى جديّته من عدمه

ب) أنّها أسّست موقفها على نصّ قانوني لا علاقة له بالقضية موضوع النظر إذ أن الفصل 259 يجيز الطعن بالتعقيب في قرارات دائرة الإتهام القاضي بالإحالة على الدائرة الجنائيّة و يحجّر الطعن إذا كانت الإحالة أمام الدائرة الجناحيّة أو محكمة الناحية و المظنون فيهم الطاعنون محالون أمام محكمة جنائيّة و قد خوّل لهم المشرع حق الطعن في القرار المذكور.

ج) أنّها إكتشفت سبيلا جديدا تصيّر الأحكام باتّة غير قابلة للطعن وهي مرور سنة على صدورها حتى و إن لم يقع الإعلام بها إذ بمرور عام عن صدوره يصبح القرار حسب المحكمة لاغيا وهو اكتشاف لم يأت به لا الأوّلون و لا نظنّ أحدا من الآخرين قادر على التمسّك به.

8.10- محاكمة سريّة

إقتضى المشرّع التونسي أن تكون المحاكمة علنيّة باعتبار ذلك أحد شروط المحاكمة العادلة و لكن كلّ متتبّع لسير محاكمات صائفة 1992 لاحظ أنّ الظروف التي تمّت فيها حوّلتها إلى محاكمات سريّة في أماكن مغلقة يهيمن على الحضور فيها أعوان إدارة أمن الدولة و فرق البوليس المختصّ المدجّجة بالأسلحة و الكلاب المدرّبة، فلقد تمّت أعمال المحاكمتين بثكنتين عسكريّتين لا يمكن لكلّ من يرغب في دخولها الوصول إليها دون المرور على مراكز مراقبة عديدة و قد وصل الأمر حدّ محاولة تفتيش أغراض المحاميات و المحامين لولا إصرارهم على رفض الخضوع لمثل ذلك الإجراء اللا قانوني كما منع بعض المحامين من المغرب و الجزائر(87) من حضور المحاكمة و متابعة أطوارها في حين منعت العائلات من الوصول إلى الثكنة و لم يسمح بالحضور إلا للبعض و قد لاحظ المحامون التواجد الكبير لأعوان إدارة أمن الدولة خارج قاعتي الجلسة و داخلها كما لاحظوا أنّ أمر تنظيم الدخول و الخروج يخضع لتعليمات الأعوان المذكورين رغم خضوع الثكنة قانونيّا لنظر الجيش باعتبارها منطقة عسكريّة و لكن يظهر أنّ هيمنة إدارة أمن الدولة لم تقف عند حدّ الأبحاث و التحقيق بل تجاوزته للتحكّم في سير المحاكمة و في التحكّم في منطقة عسكريّة كان من المفروض أن تخضع لإدارة القضاء العسكري لا غيره و يذكر المحامون و المتابعون للقضيّة أجواء الخوف و الترهيب التي فرضتها فرق المصالح المختصّة على كلّ من ارتاد المحكمة منهم و ذلك بتعمّدهم الظهور المبالغ فيه    و تسجيل الهويّات في مواقع مختلفة و الوجود المكثّف لرجال يرتدون بدلا سوداء مدجّجون بالأسلحة و في حالة تأهّب و التواجد المبالغ فيه لأعوان من مختلف الفرق في مكاتب المحكمة  و قاعتي الجلسة بما في ذلك الأماكن المخصّصة للمحامين و تعمّد التدخّل العنيف ضدّ المحالين كلما حصل خلاف بين أحدهم و بين هيئة المحكمة مثلما حدث في محكمة بوشوشة عندما تدخّلت الفرق المختصّة للإعتداء على المظنون فيهم و إجبارهم بالقوّة على التوقّف على ترديد النشيد الوطني و قد أصبح الحضور بالمحكمة و متابعة أطوار المحاكمة و مغادرة المكان ليلا نوعا من المغامرة غير مأمونة العواقب بالنسبة لبعض المحامين الذين كان كثير منهم يخشون التعرّض للإعتداء و المضايقة لخلوّ المحكمة و محيطها من عابري السبيل و المواطنين بسبب إغلاق الشوارع و الأنهج المؤدّية لها و تحجير المرور فيها على المترجّلين و أصحاب السيّارات على حدّ سواء و يذكر كثير من المحامين النائبين ما كان لجرأة و شجاعة العميد محمّد شقرون رغم تقدّمه في السنّ من تأثير كبير عليهم وما أدّت إليه مواقفه و مواجهاته مع المحكمة من تحرير لهم من الخوف و تحدّ الإرهاب المسلّط عليهم(88) و الذي حال دون الكثيرين و دون الحضور و متابعة المحاكمة في حين أجبرت العائلات على عدم الحضور لأنّه تمّ منعها من الإقتراب من المحكمة أصلا من طرف حواجز الحراسة المنتصبة في مداخل الشوارع و الأنهج المؤدّية لها.

 



(84)  الملحق ص ص 139-142 (عرائض محامين )

(85)  الحكم عدد 76110 ص 219 و الحكم عدد 76111 ص 140.

(86)  الحكم عدد 76111 ص 141.

(87)  انظر الملحق السابق ص ص 139- 142( عرائض المحامين )

(88)  انظر قائمة المحامين النائبين (في بداية الوثيقة)

 

9.10- محاكمة في ظل دعاية إعلاميّة منحازة 

يذكر المحامون و كلّ من تابع المراحل التي مرّت بها القضيّة تعمّد السلطة تسخير الإعلام لتبرير الحملة التي استهدفت آلاف المواطنين نساء و رجالا و للتغطية على كلّ ما تعرّضوا له من تجاوزات وصلت حدّ القتل المتعمّد كالعمل على إجبار الجميع على الصمت     و الإمتناع حتى عن مجرّد التفكير في دعم أحد الجيران أو الأصدقاء أو الأقارب ممّن طالتهم حملة الإيقاف و المحاكمة. و يذكر الملاحظون أنّ التلفزة التونسيّة لعبت دورا خطيرا في تمرير مشروع السلطة و دعايتها ضاربة عرض الحائط بمبادئ سريّة التحقيق و قرينة البراءة و كرامة المتهمين و حرمتهم المعنويّة و الجسديّة حتى في حالة ثبوت إدانتهم كما يذكر الملاحظون الدور السلبي الذي لعبه بعض "المثقفين" ( من داخل البلاد و خارجها ) الذين جندتهم الحكومة التونسيّة لإضفاء نوع من الشرعيّة الفكرية و الثقافيّة على ممارساتها المخالفة للقانون و القيم و الأخلاق و قد اشتكى المحامون من تعمّد وسائل الإعلام نقل تصريحات مصوّرة للعديد من المظنون فيهم قبل إحالتهم على التحقيق و بدون إذن القضاء مثلما حصل مع الدكتور محمد التومي بن نجمة الذي بثّت التلفزة حديثا له إثر حادثة باب سويقة بعد أن قدّمته على أنّه العقل المدبّر للحادثة المذكورة و مع النقيب أحمد عمارة الذي أرغم على الحديث عمّا سمّي باجتماع براكة الساحل ووجود تنظيم نهضوي داخل الجيش و كذلك الشأن بالنسبة للمتهمين بسرقة المتفجّرات من جماعة الكبّاريّة و المتهمين باستجلاب صاروخ الستينجر وهو ما أثبتت الأبحاث و الأحكام الصادرة في القضيّتين مخالفتها للواقع و الحقيقة فلا الدكتور بن نجمة أدين من أجل التورّط في قضيّة باب سويقة بل حفظ القضاء التهمة المذكورة في حقّه و أثبت براءته و لا النقيب أحمد عمارة أدين بتهمة حضور إجتماع براكة الساحل بل أثبتت الأبحاث أن العديد من الضباط الذين صرّح وزير الداخليّة في ندوته الصحفيّة ليوم 22/5/1991 أنهم مورّطون في القضيّة لم تشملهم الأبحاث أصلا و لم ترد أسماؤهم من ضمن المحالين على القضاء مطلقا مثلما هو الشأن بالنسبة للرائد خديم الله و الرائد بن عمر الذين لا يعلم أحد ما إذا كانوا موجودين حقيقة أم لا.و لم تكتف المحكمة بالصمت عمّا يحدث من هتك لسريّة الأبحاث و لحرمة المتهمين و من اعتداء على صلوحياتها إذ يجري كلّ ذلك بدون إذن منها رغم ما خوّله لها المشرّع من نفوذ و سلطات بل حوّلت و سمحت بأن تحوّل إدارة أمن الدولة قاعة المحكمة و جلساتها لمنابر تردّد دعاية الصحافة الرسميّة و تكرّرها من ذلك أنّ المحامين فوجئوا عند انطلاق جلسات القضيّة عدد 76110 بثكنة بوشوشة بانتصاب معرض للمعلّقات و الصور و المحجوز ببهو المحكمة و في مدخل قاعة الجلسة و كان من ضمن المحجوز المعروض ما حجز بمناسبة محاكمة أمن الدولة سنة 1987 و قد أثار تحويل بهو المحكمة إلى قاعة عرض - في محاولة مكشوفة للتأثير على سير المحاكمة خلافا للأحكام القانونيّة المتعلقة بالمحجوز- إحتجاج المحامين و استنكارهم وهو ما فرض على المحكمة و إدارة أمن الدولة وضع حدّ لتلك المهزلة و يذكر المحامون التواجد الدائم لعونين بالزيّ المدني تكفّلا بتغطية كامل أطوار المحاكمة بواسطة آلات تصوير "كاميرا" كما يذكر المحامون أنّهم فوجئوا صبيحة أوّل يوم خصّص لاستنطاق المتهمين بإحضار السيّد الهادي الغالي ملاحظين أنّ رئيس الجلسة لم يتوجّه له بالسؤال بل طلب منه أن يحدّثه عن مخطّط الإعتداء على حياة رئيس الدولة بكلّ تفصيل و لمّا أجابه الهادي بأنّه خالي الذهن من كلّ مخطّط إعتداء مهما كان ضحك رئيس الجلسة و سحب من بين أوراق الملف شريط فيديو      و قال للهادي " و كلامك هذا ما قولك فيه " و أمر أحد الأعوان بعرض شريط الفيديو في جهاز تلفزة تمّ إحضاره منذ إنطلاق الإستنطاق و تبيّن للحضور أنّ الشريط الذي واجهت به المحكمة المتّهم هو الشريط الذي عرضته التلفزة التونسيّة في وقت سابق و لمّا واجهه الهادي الغالي بقوله " ألم تر حالتي و وجهي ؟" و قد كانت آثار التعذيب بادية و جليّة على وجهه في الشريط المذكور عندها و بكلّ انفعال أمر رئيس الجلسة بإيقاف العرض قائلا " نحّي عليّ هذا" و تكشف هذه الحالة بوضوح انحياز هيئة المحكمة ضدّ المتّهمين و تورّطها في أفعال و ممارسات دعائيّة بعيدة كلّ البعد عن العمل القضائي الجادّ و بحثها عن السبل الكفيلة بإقناع الحضور من غير المتّهمين بجديّة الإتّهام و صدقه حتّى و لو أدّى ذلك إلى عرض ما حجز في قضايا الإسلاميّين سنة 1987 لإثبات إدانتهم سنة 1992 و عرض ما سجّلته إدارة أمن الدولة من أشرطة مصوّرة دون إذن القضاء.  

10.10- المحكمة تهضم حقوق الدفاع

اشتكى المحامون النائبون أمام المحكمة العسكريّة صيف 1992 من كثرة العراقيل التي واجهتهم أثناء قيامهم بواجبهم خاصّة بعد تمسّكهم بالدّفاع عن منوبيهم بكلّ مسؤوليّة و جديّة حسبما تفرضه مبادئ المحاماة السامية و يذكر المحامون أنّ رئيس المحكمة واجه مطالبتهم له بتطبيق أحكام القانون في جلسة يوم 27/7/1992 بقوله "ما يهمنيش النص هناك محكمة طعن امشوا أطعنوا قدّامها..." كما يذكر المحامون النائبون أنّ المحكمة رفضت الإستجابة لكلّ مطالبهم المشروعة في تمكينهم من زيارة منوبيهم قبل الإستنطاق و تمكينهم من نسخة من كامل أوراق الملف و استنطاق منوبيهم بحضور كلّ المتهمين حتى يمكن إجراء المكافحات اللازمة   و سماع شهود البراءة و إحضار المحجوز و عرضه عليهم و عرض المظنون فيهم على الفحص الطبيّ و إحضار الإطباء محرّري تقارير الإختبارات و التحرير عليهم لإيضاح ما شاب تقاريرهم من غموض و التأخير لآجال معقولة تخوّل للمحامين دراسة الملف في ظروف طبيعيّة و إحضار دفاتر الإستنطاق و تمكينهم من الإطلاع عليها بصفة مباشرة و إستدعاء بعض الأعوان الذين باشروا الأبحاث في القضيّة و خاصّة الذين حرّروا المحاضر التي ثبت وجود إخلالات خطيرة بها و غير ذلك كثير الأمر الذي أجبر المحامين على رفع العرائض و مقاطعة الجلسات و إعلان الإنسحاب لاستحالة قيامهم بواجبهم في الدفاع بالأمانة و الشرف اللازمين(89) كما اظطروا يوم 29/7/1992 لتقديم مطلب تجريح في رئيس الدائرة المتعهدة بالنظر في القضيّة عدد 76111 طالبين سحب الملف منه و إحالته على دائرة  أخرى و قد أعلموا بذلك كلّ من الهيئة الوطنيّة للمحامين و هيئة فرع تونس(90) هذا علاوة على احتجاج المحامين التونسيين على منع زملائهم من الجزائر و المغرب من حضور المحاكمة و متابعتها رغم الإتفاقيّات القضائيّة الرابطة بين تونس و كلّ من الجزائر و المغرب و قد سجّل المحامون بكلّ استياء ما تعرّض له العديد منهم من ضغوطات بغاية تنحيهم عن القيام بواجبهم المهني خاصّة بعد أن وصل الأمر حدّ الإعلام بتتبّع الأستاذين سعيدة العكرمي و نورالدين البحيري من طرف القضاء العسكري بتهم إفشاء أسرار المهنة بدعوى أنّهما مكّنا بعض عناصر حركة النهضة من نسخ محاضر الأبحاث كما تعرّض العديد من المحامين النائبين للمضايقة و قد سجّل الجميع تعرّض مكاتب العديد منهم للخلع و يذكر على سبيل المثال مكاتب الأساتذة عبد الرؤوف العيّادي        و نعمان الفقي الكائن بباب بنات قبالة مقرّ إحدى الوزارات و مكاتب الأساتذة العربي عبيد     و زهور كوردة و المرحوم بلقاسم خميس في حين دفع الأستاذ محمد نجيب الحسني ثمن دفاعه و استماتته في القيام بواجبه بتلفيق تهمة ضدّه و الزجّ به في السجن بعد أن أعلن الصادق شعبان وزير العدل آنذاك علنا في اجتماع حزبي في الكاف أنّ محمد نجيب الحسني سيدفع ثمن وقوفه مع من يعتبرهم إرهابيّين في حين تمّ إقصاء كلّ من أعلن نيابته في القضيّة عن نيابة المؤسّسات العموميّة و شبه العموميّة و حتّى الخاصّة من مثل شركات التأمين و البنوك بتعليمات مباشرة من إدارة أمن الدولة كما تعرّض كثيرون للمساءلة الجبائيّة و المتابعة الأمنيّة في محاولات مكشوفة لثنيهم عن القيام بواجبهم بالشرف و الأمانة الواجبين(91).

و برغم العوائق و الضغوطات الخفيّة و المعلنة كانت هذه المحاكمة بفصليها (في بوشوشة و باب سعدون) مناسبة أثبت خلالها المحامون التونسيّون الذين أجبروا على متابعة جلستين في نفس الوقت (رغم مطالبتهم بتأجيل النظر في القضيّة عـ76111ـدد إلى ما بعد صدور الحكم في القضية عـ76110ـدد) إلتزامهم المبدئي و القطعي بمبادئ المحاماة السامية في الدفاع عن الحقّ و العدل و قيامهم بواجبهم بكلّ شرف و أمانة و عدم الرضوخ للضغوط    و التهديدات مهما كانت حدّتها و جدّيتها كما أثبت المحامون أنّ المحاماة جزء لا يتجزأ من الشعب و أنّها معنيّة باتخاذ موقف من كلّ ما تعيشه بلادهم و أنّها طرف رئيسي في إقامة العدل لا يمكن لأيّ واحد كائن من كان شطبه و تحييده كما أثبت المحاميات و المحامون النائبون بقيادة الأستاذ العميد شقرون رحمه الله و الزملاء عبد الرؤوف العيادي رئيس الجمعيّة التونسية للمحامين الشبّان و أعضاء هيئتها المديرة أنّ المحاماة حرّة مستقلة وطنيّة أو لا تكون و أنّ فرسان الكلمة الصادقة قادرون متى تسلحوا بالعلم و الوعي و النزاهة و الشجاعة اللازمين على تحويل ما شيّدته الأبحاث الباطلة و الدعاية المنحازة خلال أكثر من سنتين إلى ركام بكشف الحقيقة و فضح الإخلالات و تعرية زيف ما تأسّس عليه الإتهام و وهن ما انبنى عليه من أحكام.



(89)  ملحق ص 143(عريضة للمحامين )

(90)  ملحق ص 144 (عريضة المحامين إلى عميد الهيئة الوطنية للمحامين )

(91)  يذكر المتابعون لأوضاع المحامين و المحاماة أنّه بقدر ما تعمّدت السلطة عقاب البعض على إلتزامهم بالقيام برسالتهم النبيلة على أحسن وجه و بكلّ صدق و إخلاص و بقدر ما تعمّدت عقاب القطاع بصفة عامّة بتضييق مجال تدخّل المحامين و محاصرتهم بالقوانين التي تسلبهم حقّهم في العمل فتحت الباب أمام رشوة أقليّة معزولة مقابل خدمات أمنيّة على حساب مبادئ و قيم المحاماة و قوانينها بتخصيصها نيابة المؤسسات العموميّة و شبه العموميّة حسب القائمة المرافقة التي وجهت من طرف الوزير الأول إلى وزير الإقتصاد الوطني وهي القائمة التي يتعيّن حسب الرسالة التوضيحيّة المرافقة لها "التعامل معهم في نطاق عقود يتمّ إبرامها"  و المصحوبة بقائمة في المحامين "الذين لا يمكن التعامل معهم" علما و أنّ الإجراء التعسّفي و الذي يهدف إلى التضييق على عموم المحامين الشرفاء و تجويعهم و قطع سبل الرزق أمامهم مقابل تمكين أقليّة لا يتجاوز عددها السبعين محاميا من امتيازات ثمنا لما يقدّمونه من خدمات لنظام الحكم على حساب المبادئ و القيم و الأخلاق و قد شملت هذه الممارسات اللاقانونية و اللادستورية الإطباء و العديد من قطاعات المجتمع و يذكر أنّ عمليّة المحاصرة  و التضييق لم تشمل الأطباء و المحامين المعروفين بانتمائهم أو تعاطفهم مع المعارضة الوطنيّة بل شملت الأغلبيّة المطلقة و لم يسلم منها حتّى التجمعيّين منهم الذين رفضوا الخضوع لتعليمات إدارة أمن الدولة و امتنعوا عن الإنسياق وراء الدعوات الهادفة لتحويلهم إلى مجرّد أدوات خاضعة تنفّذ الأوامر و التعليمات على حساب مبادئ المحاماة و الطبّ و قيمها و أخلاقياتها مثلما ما حصل بمناسبة قضيّة باب سويقة حيث تحوّل بعض المحامين إلى دعاة لاستصدار أحكام الإعدام و إنزال أقسى العقوبات في حين تحوّل المدعو هيثم مقنّم إلى شاهد زور للتغطية على التعذيب و آثاره و يذكر الكثيرون الدور الذي لعبه الأساتذة زهير الذوادي و محمد النقازي و محمد الهادفي و منذر الفريجي في تحريض الدائرة الجنائيّة بتونس على إصدار أحكام بإعدام بعض المتهمين بالتورّط في قضيّة باب سويقة. كما يذكر المتابعون الجهد الذي بذله هؤلاء في تضخيم الدور الذي من المفترض أنّ المرحوم محمد فتحي الزريبي قد قام به في القضيّة المذكورة بما برّر الجكم عليه بالإعدام شنقا بعدما سبق للمحكمة أن قضت بسجنه لمدّة عشرين سنة فقط و يذكر المتابعون لسير القضية المذكورة كيف أصيبت الأستاذة حميدة العبيدي مرابط بإغماء و انهيار عند صدور الحكم الأوّلي في القضيّة و استبعاد المحكمة لعقوبة الإعدام و لكم أن تبحثوا عن تفسير مقنع لإصابة محامية بانهيار عصبي مفاجئ بسبب عدم إصدار المحكمة لحكم بإعدام متهم. الملحق ص ص 145-149.