5551.jpg

Ch15

الفصل الخامس عشر : المحكمة تصدر حكما بالإدانة دون تعليل  

يعلم كل من له أدنى دراية بالقانون وأحكامه أنه على المحاكم تعليل أحكامها تعليلا مستساغا بما له أصل ثابت في أوراق الملف كما أنه عليها بعد بسط الوقائع بيان توفّر أركان الجرائم المنسوبة للمتهمين من عدمها بشكل مقنع و قد لاحظ المحامون النائبون أنّ الحكم الصادر في القضيّتين عـ76110ـدد و عـ76111ـدد كان خاليا من كلّ تعليل ناهيك و أنّه لم يبيّن و لو بشكل سريع كيف توفّرت أركان جريمة الفصل 72 ضدّ المتهمين رغم عمق و جديّة ما تمسّك به لسان الدفاع من دفوعات أثبت من خلالها عدم توفّر أركان الجريمة المذكورة      و غيرها من الجرائم .

و لمزيد كشف الحقيقة و تبيانها نجد أنفسنا مضطرين لبسط تعريف رجال القانون لجريمة الفصل 72 من المجلة الجنائيّة و لأركانها القانونية و الماديّة. 

1.15- في جريمة الإعتداء المقصود به تبديل هيئة الدولة

أ) بسطة تاريخيّة

إنّ التعرّض لتعريف جريمة الإعتداء المقصود به تبديل هيئة الدولة يقتضي منّا إلقاء بسطة و لو سريعة على تطوّر هذه الجريمة على مرّ العصور و يذكر فقهاء القانون أنّ هذه الجريمة مرتبطة من عهد الرومان ارتباطا وثيقا بكلّ عمل يستهدف الملك و السلطان سواء كان يستهدفه في بدنه أو في عرضه حتى سمّيت جرائم المساس بالعظمة لتشهد نوع من الضمور خلال العصور الوسطى وهو ضمور لم يستمرّ مع ظهور أنظمة الحكم المطلق حيث كان يعاقب على الإعتداء بالقتل حرقا و الإلقاء للوحوش و مصادرة الأموال و الأملاك كما كان العقاب يصل الفروع و الأزواج كما لم يكن منصبا على الأفعال الماديّة فحسب بل يشمل أيضا الكتابات و مع سنة 1791 حصل لأوّل مرّة التمييز بين أمن الدولة الخارجي و أمن الدولة الداخلي وهو تمييز تجسّد في المجلة الجنائيّة الفرنسيّة سنة 1820 حيث خصّصت فصولها من 75 إلى 85 للمساس بأمن الدولة الخارجي و من 86 إلى 102 للمساس بأمن الدولة الداخلي و قد حصل نوع من التطوّر في نظرة المشرّع الغربي لهذه الجرائم حتى وصل حدّ إلغاء افتكاك الأموال  و الأملاك confiscation و لم تأت سنة 1848 حتى تمّ إلغاء عقوبة الإعدام في الجرائم السياسيّة و كذا تسليم المجرمين السياسيّين و قد تميّز أمر 26 فيفري 1848 بالتشدّد في عقاب جرائم المساس بأمن الدولة الخارجي دون جرائم المساس بأمن الدولة الداخلي حتى أنّ عقوبة النفي قد أضحت تهمّ المتّهمين بالتجسّس العائدين (récidiviste) أمّا من ناحية الإختصاص فقد جاء المرسوم الفرنسي عدد 60-529 المؤرّخ في 4 جوان 1960 ليعطي حقّ النظر في جرائم الإعتداء على أمن الدولة للمحاكم العسكريّة و ذلك في حالة الحرب فقط و قد تمّ التوسيع في مشمولات المحاكم العسكريّة لمواجهة نتائج حرب التحرير الجزائريّة (1954-1962).

في حين أعطيت صلاحيّات النظر في هذه الجرائم في وقت السلم لمحكمة أمن الدولة   و التي تمّ حلها في فرنسا سنة 1981 و بالتحديد في 4 أوت 1981 و عوّضت بمحاكم الحقّ العام كما تمّ في 21 جويلية 1982 إلغاء المحاكم العسكريّة وقت السلم و رغم ما اتخذ من خطوات ضدّ تطوّر ظاهرة الإرهاب التي استفحلت في فرنسا خلال العشريّة الأخيرة و ما أدّت إليه من اتخاذ جملة من الإجراءات القانونيّة مثل السماح في حالات الإرهاب بتمديد الإيقاف إلى أربعة أيام فإنّ البرلمان الفرنسي رفض رفضا قاطعا توسيع هذه الإجراءات لتمسّ جرائم المساس بأمن الدولة و ذلك للفرق الواضح بين جرائم الإرهاب و هذه الجرائم و قد تأسّس الرفض المذكور على مساس مثل ذلك التشريع بمبدأ دستوري وهو مبدأ مساواة المواطنين أمام القانون وهو ما أدّى بعد ذلك في 30/12/1986 إلى الإكتفاء بعنوان مواجهة الإرهاب دون المساس بأمن الدولة.

ب) تعريف الإعتداء

يكشف الحوار الكبير الذي انطلق إثر تقديم مشروع Peyrefitte لمراجعة المجلة الجنائيّة الفرنسيّة  و الذي علّق عليه الفقيه جيرار صولي Gérard Soulier بقوله معلّقا على الرغبة في اتخاذ جملة من الإجراءات المقيّدة للحريّات بدافع مواجهة الإرهاب أنّ أولويّة الأمن على المساواة تؤدّي حتما إلى زوال دولة القانون

Ainsi l’état de droit tend ŕ disparaître avec la primauté de la sécurité sur l’égalité            

كما أجمع رجال القانون على أنّ عدم القدرة على إلزام البوليس باحترام القواعد الإجرائيّة المقرّرة يجعل هذه المؤسّسة فوق القانون و فوق الدولة كما أنّ مجاراة القضاء لهذا الإتجاه مهما كان مبرّره سيفقد القضاء دوره الدستوري باعتباره حامي الحريّات.

و لقد نصّ المشرّع التونسي صلب الفصل 72 من المجلة الجنائيّة على معاقبة مرتكب الإعتداء المقصود به تبديل هيئة الدولة أو حمل السكان على مهاجمة بعضهم بعضا بالسلاح أو إثارة الهرج و القتل و السلب بالتراب التونسي.

فكانت أوّل ملاحظة تفرض نفسها في خصوص هذه الجريمة هو غياب التعريف الدّقيق لمعنى الإعتداء المجرم ممّا يفتح المجال لإدماج كلّ فعل يشتمّ منه عدم الخضوع المطلق للنظام السياسي القائم وهو ما اعتبرته الأستاذة بوراوي خرقا لمبدأ شرعيّة الجرائم و العقوبات و توسيع في دائرة الجرائم(115).

و لم يكن المشرّع التونسي الوحيد الذي لم يعرف الإعتداء بل كذا الشأن بالنسبة للمشرع الفرنسي و السوري و المصري و قد كان لكلمة اعتداء Attentat في القانون الفرنسي القديم نفس معنى كلمة شروع و انتقلت بهذا المعنى إلى القانون الحاضر و يرى بعض الشراح أنه لا يدخل في وصف الإعتداء إلا أعمال القوّة التي يعدّها القانون من الجنايات و يستنتجون ذلك من صرامة العقوبة المقرّرة للإعتداء وهي الإعدام و من أن لفظ الإعتداء الذي يشير إلى فعل مادّي شديد يصعب انطباقه على جنحة و الإعتداء حسب الفقيه السوري محمد الفاضل مصطلح غامض و مخيف لأنّه يكاد يتّسع لطائفة كبيرة مختلفة من الدّلالات و المعاني و يشمل ألوانا عديدة من السلوك الإنساني و صور شتّى من الأفعال و التصرّفات إذ كلّ ما يؤذي الغير أو يمسّ من حقوق الآخرين يمكن أن يسمّى اعتداء و إذا كان عدم التفريق بين الإعتداء  و الشروع tentative و بقاء جرائم الإعتداء على أمن الدولة واسعة الدلالة لاشتمالها على الجرائم التامة  و الجرائم المشروع فيها و الأفعال المهيئة للتنفيذ و ذلك نتيجة لما ورثته التشريعات الجزائيّة الأوروبيّة من أثار عن التشريع الروماني في جرائم المساس بالعظمة أو بوليّ الأمر فانّ تطور التشريع أدى مرة أخرى الى التقريب بين الاعتداء و الشروع فأخرج المؤامرة من مفهوم الاعتداء و جعل منها جرما مستقلا. ثم ضيق رقعة الاعتداء فاستبعد عنه الأفعال التحضيرية   و قصر مداه على أفعال التنفيذ. و من أجل ذلك لم يكتف المشّرع لتوفر أركان الاعتداء بتوفر العزم و القصد الراسخ بل تجاوزه إلى ارتكاب أفعال مادية يفهم منها بصراحة حسب طبيعتها غاية فاعلها و لذلك حقق الفقيه محمد الفاضل أنّ الاعتداء لا يتوفر إلا متى توافرت شرائط الشروع كما أنّ الفعل المؤلف للجريمة لا يكون إلا تنفيذا و هذا ما دفع المشرع و الفقهاء أن يخرجوا من مفهوم الاعتداء جميع المراحل السّابقة لتنفيذ الجريمة كالتفكير فيها و العزم عليها   و المؤامرة و الأفعال التحضيرية و الأفعال المهيأة للتنفيذ ولا يمكن القول بوجود جريمة اعتداء إذا لم يتعد النشاط الإجرامي مرحلة التحضير و التمهيد و لم يتجاوزها إلى مرحلة الشروع أي البدء بالتنفيذ مما يجعل الاعتداء لا يتحقق ما لم يقم الدليل القاطع على أن الفاعل قد ارتكب فعلا ماديا من أفعال التنفيذ و على أنّ هذا الفعل التنفيذي المادي يقصد فاعله به تحقيق أحد هذه الأهداف المعينة قانونا وهو ما يقتضي إثبات الفعل المادي كإثبات الصلة التي تربطه بالهدف المجرم.  

و بسبب تأثّره بهذا التطوّر الحاصل صلب التشاريع الأوروبيّة و التشريع الفرنسي على وجه الخصوص جاء الباب الثاني من المجلة الجنائيّة المعنون في الإعتداءات على أمن الدولة الداخلي محتويا على عدّة فصول من 63 إلى 81 و قد خصّ المشرّع جريمة الإعتداء على حياة رئيس الدولة بفصل مستقلّ كما فصّل جريمة المؤامرة و العزم على الإعتداء المنفرد على أمن الدولة الداخلي و إبداء الرأي لتكوين مؤامرة و جمع و ترأس جموعا و مدّها بالأسلحة و الإنضمام إلى تلك الجموع بفصول مستقلة وهي الفصول 63 و 64 و 67 و 68 و 69 و 70 و 71 و 73  و 74 و 75  و 76 و 77 و 78 و 79 و 80 من المجلّة الجنائيّة.



(115)  سكينة بوراوي، الجريمة السياسية و المبادئ التقليدية للقانون الجنائي، المجلة القانونية التونسية لسنة 1982، إصدارات مركز الدراسات و البحوث و النشر بكلية الحقوق و العلوم السياسيّة و الإقتصاديّة بتونس،   ص 475 و ما يليها.

 

2.15- الإعتداء المقصود به تبديل هيئة الدولة : جريمة سياسيّة

و موضوع الجريمة السياسيّة شائك لكن يكفي القول بأنّ مفهومها متحوّل أبدا و نسبي في كلّ الحالات يتغيّر بتغيّر أصول الحكم و القواعد التي تحدّد علاقة الدولة بمواطنيها و هذه الجريمة قديمة قدم السلطان و الحكم و قد ظهرت لما شعرت المجموعات البشريّة بضرورة الدّفاع عن وجودها من خطر بعض الأفراد ممن لهم نوازع ترمي إلى تفكيك الكيان الجماعي   و لذلك فإنّ تعريف الجريمة السياسيّة يكون دوما تعبيرا عن موقف الدولة حيال من يعادي نظامها ليس إلا.

و إذا لم يتعرض نصّ المجلة الجنائيّة التونسيّة الواردة بأمر 1913 إلى عبارة الجريمة السياسيّة التي لم ترد إلا سنة 1926 في أمر 29 جانفي 1926 المتعلق بعقاب الجرائم السياسيّة فإن المشرّع التونسي بعد الإستقلال قد تفادى استعمال العبارة التي لم ترد إلا في أمر 19 أفريل 1956 المتعلق بإحداث المحكمة العليا و لقد وردت عبارة الجريمة السياسيّة في الفصل 17 من الدستور التونسي و في الفصل 313 من مجلة الإجراءات الجزائيّة في باب التسليم و قي الفصل 251 من مجلة الشغل و يبقى السؤال مطروحا هل أنّ عدم استعمال المشرّع لعبارة الجريمة السياسيّة يعني أنّه لا يعترف بهذا النوع من الجرائم و الجواب قطعا لا و ذلك للإعتبارات التالية:

لقد ضبطت المجلة الجنائية سنة 1913 من بين العقوبات عقوبة لا تنطبق إلا على المجرمين السياسييّن وهي عقوبة النفي.

كما حجّر الفصل 17 من الدستور تسليم اللاجئين السياسيين مع ما تبع ذلك من مصادقة على اتفاقيّات إلتزمت بمقتضاها تونس بأن تستثني من ميدان تبادل المجرمين صنف المجرمين السياسييّن.

و ما إحداث محكمة مختصّة بالنظر في أهمّ الجرائم السياسيّة و نعني بذلك محكمة أمن الدولة التي و إن وقع حلها فإنّ مشمولاتها أحيلت إلى غيرها من المحاكم إلا دليل على ذلك وهو إتّجاه أكّده إعادة عمل المشرع التونسي بعد الاستقلال بالفصول الحامية لأمن الدولة الداخلي بمقتضى أمر 29/11/1955 و أمر 10 جانفي 1957 حيث وقع تعزيز المجلة الجنائيّة بأحكام تحمي الأمن الخارجي للدولة.

يقول قارسون أحد كبار فقهاء القانون الجنائي الفرنسي " تكون الجريمة السياسيّة عندما يكون غرض المجرم سياسيّا" كما يقول الفقيه قارو" تعتبر جريمة سياسية كلّ جريمة تفضي إلى تقويض النظام السياسي أو تعديله أو الإخلال به" و كذا اتجهت الأستاذة سكينة بوراوي أستاذة القانون بالجامعة التونسية عندما اعتبرت أنّ مرونة الجريمة السياسيّة تجعل من الصعب تحديدها بصيغة الحصر بل لا يمكن إلا الإشارة إلى بعضها مثل جرائم المساس بأمن الدولة(116) .

و كذا اتجه الأستاذ رافع بن عاشور أستاذ القانون و العلوم السياسيّة في دراسة له حول جريمة الخيانة العظمى التي اعتبر أنّها (أي جريمة الخيانة العظمى) ككلّ الجرائم السياسيّة تنشأ عن أعمال و أفعال موجّهة ضدّ الدولة و مؤسّساتها الدستوريّة لكن على عكس الجرائم السياسيّة الأخرى كمحاولة تغيير شكل الدولة...)(117). 

و لقد أوضح المؤتمر الدولي السادس المنعقد سنة 1935 لتوحيد القانون الجنائي أنّ الجرائم السياسيّة هي الجرائم الموجّهة ضدّ نظام الدولة أو سير جهازها و كذلك الجرائم الموجّهة ضدّ حقوق المواطن السياسيّة.

كما أكّدت محكمة أمن الدولة عندما نظرت في قضيّة حركة الوحدة الشعبيّة سنة 1977 هذا الإتجاه بقولها "و خلاصة القول أنّه و إن اختلف الفقهاء في تحديد معايير تعريف الجريمة السياسيّة (معايير شخصيّة أو موضوعيّة) فإنّ من الجرائم ما لا يثير إشكالا حول وصفها بكونها سياسيّة أمثال جريمة الحال" و باعتبار الطابع الخاص للجرائم السياسيّة نلاحظ و أنّه من جملة 18 فصلا التي تنظم جرائم الإعتداء على أمن الدولة في تونس نجد 7 منها ترتئي عقوبة الإعدام و 3 عقوبات بالأشغال الشاقة و الحال أنّه على جملة باقي فصول المجلة الجنائيّة (192) لا وجود لعقوبة الإعدام إلا في 4 حالات فقط.

و بالإضافة إلى كونها جريمة سياسيّة فإنّ الإعتداء المقصود به تبديل هيئة الدولة هو من صنف جريمة الفاعل المتعدد بما يفسر كثرة عدد المتّهمين في مثل هذه القضايا لأنّ الإعتداء المذكور لا يمكن أن يتحقّق على يد فرد واحد.

3.15- أركان جريمة الإعتداء المقصود به تبديل هيئة الدولة

أ‌-       الركن المعنوي :

لما كانت الجريمة قصديّة فإنّه لا يكفي لتوفّر أركانها أن تنصرف إرادة الجناة إلى إنجاز محاولة تستخدم فيها القوّة إذ لم يثبت أن الغرض من هذه المحاولة هو قلب أو تغيير هيئة الدولة و هذا ما يستفاد من صريح نصّ التجريم و على هذا الأساس فإنّ جريمة الإعتداء هي في أغلب حالاتها تحالف مجموعة و تقاررهم على الإطاحة بالنظام و لم يكتف المشرّع بالعزم و التقارر  و القصد الراسخ بل تجاوز ذلك إلى ارتكاب أفعال ماديّة يفهم منها صراحة غاية فاعلها و معنى القصد الإجرامي في جريمة الحال هو أن يشترك العضو في الإتفاق الجنائي وهو عالم أن الغرض منه ارتكاب جناية من الجنايات المخلة بأمن الدولة و أن يكون قد أراد ارتكاب هذه الجناية المتفق عليها بجميع أركانها كما يحدّدها القانون أي أنّه أراد أن يشترك في الإعتداء اشتراكا جديّا مخلصا وهو ما يعني اتحاد إرادات الجميع و اتفاقهم ووعيهم بما تعاقدوا عليه.

ب‌-  الركن المادّي :

يتخذ السلوك المكوّن للجريمة ماديّا صورة استعمال القوّة على أيّة صورة و بأيّ قدر في محاولة لتبديل هيئة الدولة أو حمل الناس على مهاجمة بعضهم بعضا بالسلاح أو إثارة الهرج و القتل بالتراب التونسي و إذا كانت صور استعمال القوة عديدة فإنّه يجب لتوافر الجريمة حدوث محاولة بالقوّة للوصول إلى هدف من تلك الأهداف و حتّى إذا كانت هناك مؤامرة للقيام بالمحاولة و أخذ الأعضاء يتدارسون أسلوب إنجازها فضبطوا قبل أن يقوموا بمحاولتهم فإنّ أركان الجريمة لا تتوفّر و الفرق بين المحاولة و بين مجرّد التآمر هو الفرق بين الشروع في الجريمة و بين مجرّد الإتفاق على ارتكابها أي الفرق بين البدء في التنفيذ و بين مجرّد العزم أو التحضير حتى أنّه تستخدم للتمييز بين الأمرين في القانون الفرنسي كلمة الإعتداء Attentat و كلمة Complot.

و إذا كانت التشاريع القديمة لم تفرّق بين الأعمال التحضيريّة و الأعمال المكوّنة للإعتداء فإنّ القانون الفرنسي و كذا المشرّع التونسي قد فرّقا بينهما بوضع فصلين منفصلين  68-72.

ج- الإعتداء و العمل التحضيري

و قد جاء في بحث للأستاذ الفرنسي فيتو "أنّ العمل التحضيري بيقى غامضا و بسبب الردح من الزمن الذي لازال يفصله عن ارتكاب الجريمة فهو يترك حيزا متسعا نسبيّا للعدول عن المشروع بينما يدلّ بدء التنفيذ على إرادة ثابتة و لا رجعة فيها للذهاب حتّى النهاية مقترنة بأعمال قريبة جدّا في الزمن من الهدف النهائي".

و لئن أسّست دائرة الإتهام قرارها في إحالة المتّهمين على المحكمة العسكريّة على فقرة يتيمة جاء فيها ما يلي "إثر نجاح المرحلة الثالثة من المخطّط الإنقلابي وقع الشروع في التمهيد للإنتقال إلى المرحلة الرابعة و ذلك من أفريل 1991 و ذلك بأن أمرت الحركة بصنع وسائل الإرهاب من متفجّرات و أسلحة ناريّة وعبوات ناسفة و إعداد الوسائل البشريّة و الماديّة لاحتلال مقرّات الأمن و عزل المناطق عن بعضها البعض كصنع لافتات تحمل شعارات انتصار الحركة لرفعها عند احتلال الشارع و على ما أضيف لملف القضيّة من ملفات فنيّة مجسّمة لجرائم الإعتداء على الأرواح و الممتلكات المنسوبة لأعضاء الحركة في إطار تنفيذ المخطط الشامل من مثل حرق شعب التجمّع و حرق مقر لجنة تنسيق التجمع بباب سويقة..." فلقد حمل  القرار المذكور في طيّاته تناقضا رهيبا فهو من جهة يتحدّث عن توفّر أركان جريمة الإعتداء     و من ناحية أخرى نجده يتحدّث على توفر ركن الإعداد و التحضير لارتكاب جريمة الإعتداء  و التمهيد للدخول في المرحلة الرابعة.

و بما أنّ الإعداد و التحضير غير الإعتداء فإنّ تأسيس قرار دائرة الإتهام على عمليّة تجميع لأحداث متفرّقة عاشتها البلاد خلال مدّة عامين اثنين يجعل ملف القضيّة خال ممّا يفيد بصفة قطعيّة ارتكاب الأفعال المذكورة من طرف عناصر نهضويّة خاصّة و أنّ العديد من الأحداث المعتمدة هي عبارة عن تحركات شعبيّة حدثت بمناسبة حرب الخليج. و إن كان الإعتداء يجمع ألوانا شتى من الأفعال التي تؤلف في حدّ ذاتها جرائم خاصّة و قد لا تؤلف فإنّ ما ينبغي أن يربط بينها الغرض الإجرامي الذي يسعى إليه الفاعلون و كان على النيابة العمومية أن تثبت أولا وقوع هذا الفعل المادي الخارجي و ثانيا صدوره عن عناصر منتمية للحركة     و ثالثا وجود الصلة التي تربط بين هذا الفعل و بين هدف الإعتداء المدعى به أما إذا كان الفعل المادي يشكل جريمة خاصة فيعاقب فاعله بالعقوبة المقررة للجريمة المستقلة فما بالك إذا سبق للقضاء أن تعهّد بتلك الفعلة و أصدر حكمه بالإدانة أو البراءة فيها ممّا يحيل إلى اتصال قضاء في الموضوع لا يجوز بعد ذلك إثارته مطلقا حتى لا يؤول الأمر إلى تضارب أحكام و تناقض لا مبرّر له.

و لقد ركّز قرار دائرة الإتهام على العديد من الأفعال من مثل حادثة باب سويقة و حادثة الإعتداء على كلية الآداب بالقيروان و ملف القضية المنشورة لدى المحكمة الإبتدائيّة ببن عروس بمكتب التحقيق الأول تحت عـ1820ـدد.

كما قدّم كل من علي الإصبعي و محمد بن نجمة و نجيب الخذيري و دانيال زرّوق و محسن الجندوبي على أنّهم المنظمون لعملية باب سويقة و المشرفون على تنفيذها في محاولة لربط الصلة بين قيادة حركة النهضة و العملية المذكورة و الحال أنّ قاضي التحقيق المتعهد بالنظر في القضية المذكورة قد برّأ ساحتهم و حفظ التهمة في شأن كلّ واحد منهم(118).

في حين أنّ قاضي التحقيق المتعهد بالنطر في الملف عـ1820ـدد المنشور بالمحكمة الإبتدائيّة ببن عروس لم يتخذ قراره تاريخ صدور الأحكام و هذا القرار يمكن أن يكون بالإحالة أو الحفظ أو غير ذلك. كما أنّه لا يجوز اتخاذ مثل هذه الأفعال دليلا على وقوع الإعتداء خاصّة و أنّه لم يثبت بصفة قطعيّة لا حصول هذه الأفعال و لا صدورها عن أبناء حركة النهضة و لا وجود الصلة بينها و بين المخطط المذكور موضوع الإحالة أمام المحكمة العسكريّة و على فرض جديّة ما نسبه قرار دائرة الاتهام للمتّهمين و بالرغم من أنّ تقدير الركن الماديّ موكول لمحكمة الموضوع تحت مراقبة محكمة التعقيب فقد استخلص فقهاء القانون وفقه القضاء بعض العناصر التقديريّة إذ اعتبر فيتو "أنّ خزن الأسلحة و توزيع الأزياء و الأدوار على المتآمرين و تكوينهم وحدات و أقسام و الاستيلاء على معدات و أسلحة و أرصدة لتمويل جماعة المتهمين و كذلك الإختطافات و احتجاز الخصوم يعدّ من الأعمال التحضيريّة" كما رأى الأستاذ هارزوغ "أن شراء الأسلحة و كراء المخازن لإيداعها ليس سوى أعمالا تحضيريّة" و ما دمنا بصدد مناقشة الإفتراضات التي أسّس عليها قرار دائرة الإتهام اتهامه بناءا على أنّ أتباع حركة النهضة قاموا بتنظيم مجموعة من المسيرات و ما نجم عنها من أحداث و اصطدامات مع قوات الأمن فإنه لا مناص من التذكير بأنّ المجلة الجنائيّة في باب جرائم الإعتداء على أمن الدولة تتناول قصدا محددا و لذلك اتجه فقهاء القانون "إن المقاومة و لو كانت مسلحة لسلطة أعوان السلطة تمثل عصيانا لا اعتداءا على أمن الدولة" و لذلك جاءت الفصول من 116 إلى 124 لتعاقب على ذلك.

كما استخلصوا أن إثارة الهرج و القذف و السلب لا يثبت إلا متى هدفت المجموعة إلى القيام بمجموعة من جرائم القتل و من أعمال السلب و التحطيم كما اعتبروا أنّ جمل السكان على مهاجمة بعضهم بعضا بالسلاح و بالرغم من غياب عبارة الحرب الأهلية فلابدّ من التسليم بأنّ المشرّع لم يقصد تجريم التحريض على معارك محدودة أو على أعمال عنف فرديّة لأنّ الجريمة تفترض التحريض على معارك ذات بال و لها من الإستمراريّة ما يخوّل الحديث عن حرب أهليّة.



(116)  سكينة بوراوي، المجلة القانونية التونسية لسنة 1982، ص 475 و يليها.

(117)  رافع بن عاشور، المجلة القانونية التونسية لسنة 1985، ص 17 و ما يليها.

(118)  قرار ختم البحث في قضية باب سويقة عدد 7/62488

د- الإعتداء و المؤامرة

و بما أنّ المؤامرة قد تخرج من حيز الإتفاق بتعمد أعضائها القيام بسلسلة من الأفعال المادية الخارجية التي تتعدى مرحلة التفكير و التصميم و انعقاد العزم و يتهيأ فيها المتآمرون لتنفيذ الجناية التي اتفقوا على ارتكابها و هذه الأفعال التمهيدية تتلو مرحلة المؤامرة و تسبق مرحلة الإعتداء وهي تتجلى مثلا في شراء الأسلحة و الذخائر و في استئجار المستودعات و في شراء الأبنية و كرائها للإنطلاق منها نحو التنفيذ و قد اتجه المشرع الفرنسي كالبلجيكي إلى أنّ المؤامرة التي اقترنت بأفعال تحضيرية لا يمكن اعتبارها اعتداءا لأنّ الإعتداء يستلزم القيام بأفعال تنفيذية أي شروعا فإنّه من الخطإ اعتبار الأفعال التحضيرية أفعالا تنفيذية لأن في ذلك خروجا على أبسط القواعد الإجرائية العامة و بسبب ذلك قسّم المشرّع الفرنسي بين المؤامرة المجرّدة و المؤامرة المشدّدة أو الموصوفة وهو ما اتجه إليه المشرع الفرنسي صلب الفصل 68 من القانون الجنائي في الفقرتين الأولى و الثانية يقول الأستاذ رمسيس بنهام في كتابه المومأ إليه آنفا " على أنه يجب لتوافر الجريمة حدوث محاولة بالقوّة للوصول إلى الهدف فإذا كانت هناك مؤامرة و ضبط أعضاؤها وهم يتدارسون أسلوب إنجازها قبل أن يقوموا بالمحاولة فإنه لا تتوافر جريمة الإعتداء و لابدّ من محاولة استخدمت فيها القوة و الفرق بين المحاولة و مجرّد التآمر هو الفرق بين الشروع و مجرد الإتفاق".

و قد جاء في الموسوعة الجنائية لجندي عبد الملك (المجلد الرابع صفحة 406) أن الأدوار التي يمر بها الجاني في طريق ارتكاب الجريمة قبل أن يصل الجاني إلى غرضه و يتمم الجريمة يمرّ بأدوار و مراحل مختلفة فيبدأ بالتفكير و بعد أن تختمر لديه الفكرة يصمّم على ارتكاب الجريمة و متى وطد العزم على ارتكابها يعدّ وسائل العمل فيشتري السمّ إذا أراد تسميم أو حبلا و سلما إذا أراد ارتكاب سرقة بتسور و في هذه المرحلة ينتقل الجاني من حيز النيّة و الفكر إلى حيث يظهر إرادته في الخارج و لكنه لا يكون عندئذ في دور التنفيذ و إنما يبدأ التنفيذ بأعمال تتصل بالجريمة عن قرب و من طريق مباشر.

و لا شك أنّه كلما كانت الأفعال المرتكبة قريبة من الغرض الذي يرمي إليه الفاعل كلما كانت نيته أكثر ظهورا و كان الدليل على إجرامه أكثر وضوحا و أشدّ إقناعا من أجل ذلك جعل المشرع الحد الفاصل بين الأعمال التي تعتبر شروعا و الأعمال التي لا تعتبر كذلك هو البدء في التنفيذ و قد نصّ المشرّع على ذلك صراحة صلب الفصل 45 من المجلة الجنائيّة إذ قرر أن الشروع هو البدء في تنفيذ فعل قصد ارتكاب جناية أو جنحة و لا تعتبر شروعا مجرد العزم على ارتكابها و لا الأعمال التحضيرية لذلك.

و الأعمال التحضيرية هي التي لا تدخل في تنفيذ الجريمة و لكنها تتصل بها في ضمير الفاعل و ترمي إلى تحضير تنفيذها كشراء المادّة المتفجرة أو السلاح أو السمّ وهي أعمال لا يعاقب عليها كشروع في الجريمة التي قصد الفاعل ارتكابها و مثل هذه الأعمال يمكن أن تكون لها صفتان فهي في ذاتها تعتبر جرائم خاصة وهي بالنظر إلى علاقتها بالجرائم التي تساهم في تسهيلها أعمالا تحضيريّة.

هـ- المحاولة في القانون التونسي و القانون المقارن 

أما الأعمال التنفيذية فهي التي من مجموعها تتكوّن الجريمة و الشروع يبدأ مع البدء في التنفيذ إذ من هذه اللحظة تظهر نيّة الفاعل بصورة جليّة غير مبهمة و بكيفيّة ثابتة قاطعة.

و إذا كان المشرّع التونسي عرف المحاولة صلب الفصل 59 من المجلة الجنائيّة     و استقرّ فقه القضاء التونسي على أنّ العمل التنفيذي هو الذي يؤدي حتما و مباشرة إلى ارتكاب الجريمة ذاتها و العمل التحضيري هو عمل مبهم لا يمكن تحقيق الغرض منه و كذا سار المشرع المصري صلب المادة 45 من القانون الجنائي المصري إذ عرف الشروع بأنه البدء في تنفيذ فعل بقصد ارتكاب جناية او جنحة إذا أوقف أو خاب أثره لأسباب لا دخل لإرادة الفاعل فيها.

و قد ذهبت الأستاذة سكينة بوراوي إلى القول أنه "و لئن لم تقع بلورة مفهوم المحاولة في القانون الجنائي التونسي فإن فقه القضاء قد أكد في قرارات متعاقبة أن المحاولة المجرمة هي ارتكاب بالفعل المباشر بما لا يترك شكا في القصد الإجرامي للفاعل مما يتجه معه اعتبار أنّ المشرع التونسي كغيره لم يجرم إلا البدء في التنفيذ ". و قد نحا فقه القضاء التونسي اتجاه القضاء الفرنسي في القضية المشهورة "لاكولا"(119).

و التفرقة بين العمل التحضيري و البدء في التنفيذ جاءت لغاية شريفة وهي تمكين من عزم على ارتكاب جرم على العدول خاصة و أن الأعمال التحضيرية في القانون التونسي لا يعاقب عنها إلا بنص خاص وهي صورة الفصل 71 من المجلة الجنائية و من أجل ذلك اعتبرت الأستاذة بوراوي أن كل عقاب من أجل أفعال تحضيرية خارج دائرة الفصل 71 يعد خارقا للقانون .

و من هنا يتبين أن للشروع أركان أولها ركن أولي وهو القصد الجنائي و ثانيها ركن مادي خارجي وهو البدء في تنفيذ فعل و قد قال موليني "أن أعمال التنفيذ هي التي تكوّن الجريمة و توجدها أما الأعمال التحضيرية فيه التي تسبق التنفيذ و تعمل بقصد تسهيله       و لكنها ليست من الأعمال الماديّة التي تدخل في التعريف القانوني للجريمة" كما قال قيللي "أنّ العمل التحضيري هو عمل خارج عن الجريمة و ليس جزءا منها و أما العمل التنفيذي فهو مبدأ الجريمة وهو جزء منها لا ينفصل".

و ذهب البعض الآخر إلى أن الفعل لا يعتبر مكونا للركن المادي للشروع إلا إذا توافر فيه شرطان الأول أن يكون متصلا عن قرب و من طريق  مباشر بالجريمة التي أراد الفاعل ارتكابها و الثاني أن تكون هذه الصلة ناتجة عن الفعل نفسه و ذلك لأنهم يقولون أن الفرق الجوهري بين الأعمال التحضيرية و الأعمال التنفيذية ينحصر في أن الأولى مبهمة و الثانية مرتبطة بالجريمة ارتباطا وثيقا بحيث يمكن بواسطتها معرفة الجريمة التي شرع الفاعل فيها أما جارو" فيرى أنه على القاضي لتعيين الخطوة الأولى في الشروع أن يبحث في ما يأتي (أولا) ما هي الجريمة التي قصد الفاعل ارتكابها (ثانيا) ما هو العمل الذي وقع بعد بدء في تنفيذ الجريمة التي قصدها الفاعل أم لا و يشترط لأجل أن يعدّ العمل بدءا في تنفيذ جريمة ما أن يؤدي حالا و مباشرة إلى وقوع هذه الجريمة و (ثالثا) أركان الشروع هو عدم عدول الفاعل بإرادته إذ أن الفاعل متى بدأ في تنفيذ جريمته قد يقف قبل أن يتم التنفيذ إما من تلقاء نفسه و بمحض إرادته و إما رغم أنفه و لأنه منع من مواصلة التنفيذ".

و- جريمة الفصل 63 من ق ج و الإعتداء

و يبقى بعد ذلك أن نطرح السؤال التالي هل يمكن اعتبار جريمة الفصل 63 أعمالا بموجبها يحال بعض المتهمين على أنظار المحكمة تجسيدا للركن المادي لجريمة الفصل 72 ؟

إنّ جوابنا سيكون طبعا لا لاعتبارات قانونية صريحة ذلك ان الدولة تتمتع بحقوق أولها من طبيعة كونها تجسيدا للأمة في علاقاتها مع الأمم الأخرى وهي تمارس تلك الحقوق بوصفها شخصا من أشخاص القانون الدولي و ثانيها القانون الدولي و ثانيها زمرة الحقوق التي لا غنى للدولة عنها حتى تتمكن أجهزتها  و مؤسساتها من النهوض بأعباء الحكم و القيام بوظائفها حيال الرعيّة.

و هكذا يتضح أن الحمل الرئيسي الذي ينصب عليه الاعتداء في الجرائم الواقعة على أمن الدولة هو شخصية الدولة Personnalité de l’Etat التي هي تجسيد لواقع معين و التعبير القانوني للأمة أو الوطن وهي جرائم يمكن ان تكون ضدّ الدولة بصفتها شخصا من أشخاص القانون الدولي و تهدف بالتالي إلى إضاعة استقلالها أو الانتقاص من سيادتها أو تهديد سلامة أراضيها وهي جرائم تنال من الأمة في كينونتها  و الوطن في وجوده و استقلاله له و هدم كيان الدولة أو محوها أو تجزئتها كما يمكن أن تستهدف الدولة بوصفها شخصا من أشخاص القانون الداخلي وهي تهدف إلى الانقضاض على أجهزة الحكم أو التمرد على مؤسسات الدولة أو إجراء تعديل على القواعد الدستورية أو إثارة عصيان مسلح ضد الدولة أو منعها من ممارسة وظائفها المستمدّة من الدستور وهي جرائم تمس أجهزة الحكم و مؤسساته.

و بما أنّ جريمتي الفصلين 63 و 72 من م ج مستقلتين على بعضهما البعض فإنّ المشرع خصص لكل جريمة فصل مستقل كما أنه لم يجعل من الإعتداء على حياة رئيس الدولة صورة من صور الإعتداء على أمن الدولة الداخلي.

و هذا الإتجاه يجد تعبيره في التطور التاريخي لجرائم الإعتداء على أمن الدولة ذاتها    و التي انتهت إلى حدوث نوع من الإنفصال بين المساس بالملك و بين المساس بأمن الدولة بوصفها مجموعة مؤسسات و نظم تتجاوز رئيس الدولة و ليس في كل اعتداء على رئيس الدولة اعتداء على أمن الدولة الداخلي.

و لقد اتجهت الأستاذة بوراوي هذا المنحى عندما أكدت أن الإعتداء على أمن الدولة  هو الفعل الذي يمسّ الدولة كذات معنوية منفصلة عن أعضائها الذين يمارسون مسؤولية  سياسيّة(120).

و رغم عمق النقاش الذي أثير في أصل التهم الموجّهة للمظنون فيهم المحالين أمام القضاء العسكري صائفة 1992 و رغم الجهد الذي بذله المحامون في بيان إنتفاء أركان الجرائم المنسوبة لمنوبيهم إكتفت المحكمة العسكريّة في مواجهة كل ذلك العمق و الوضوح بالقول "    و بناءا على ما صدر عن أتباع الحركة من مظاهرات عنيفة و أعمال شغب و حرق عمّت كامل البلاد و استمرّت من النصف الثاني من سنة 1990 إلى النصف الأوّل من سنة 1991   و بناءا على وسائل العنف التي تمّ حصرها... سواء ما استعمل منها و ما لم يستعمل فإنّ ذلك يوفّر ضدّهم جريمة الإعتداء على أمن الدولة الداخلي و تحريض السكّان على مهاجمة بعضهم بعضا بالسلاح ... على معنى الفصل 72 من المجلة الجنائيّة(121)" أمّا المحالين في القضية    عـ76110ـدد فلم يكونوا أوفر حظّا من نظرائهم إذ إكتفى الحكم المذكور بالقول "حيث أنّ الأفعال الصادرة عن المتهمين... كانت تنفيذا لمخططات إلتزموا بها كالإعتداء على قوات الأمن ووسائله و مقرّات التجمّع الدستوري الديمقراطي و المؤسّسات التعليميّة و كان قصدهم من تنفيذ تلك الإعتداءات تبديل هيئة الدولة  و هدم نظمها السياسيّة و الإجتماعيّة و الإقتصاديّة   و تقويض أركان النظام و شكله القانوني... وهو الأمر الذي يقيم ضدّهم أركان جريمة الإعتداء المقصود به تبديل هيئة الدولة..."(122) . أمّا كيف ذلك فلا وجود في الحكم لجواب عن ذلك السؤال مطلقا بل نجد عوضا عنه تعليلا سياسيّا.



(119)  سكينة بوراوي، نفس المصدر السابق

(120)  سكينة بوراوي، نفس المصدر السابق

(121)  الحكم عدد 76111 ص 145

(122)  الحكم عدد 76110 ص 223