5551.jpg

Ch14

الفصل الرابع عشر : المحكمة تثبت إفتعال الوقائع سند الإتهام 

1.14-  إجتماع براكة الساحل

يعلم الجميع أنّ الإتهام الموجه ضدّ المظنون فيهم من قيادات و عناصر حركة النهضة المحالين أمام القضاء العسكري صائفة 1992 سواء بمناسبة القضيّة عـ76110ـدد أو      عـ76111ـدد قد تأسّس على حادثتين هامتين أوّلهما "إجتماع براكة الساحل" و ثانيهما "صاروخ ستينجر" لقد تمّ التركيز على الواقعتين المذكورتين إعلاميا في محاولة لإقناع الجميع داخليّا و خارجيّا بخطورة ما خططت له حركة النهضة و ما عزمت على تنفيذه بمشاركة عناصر من الجيش الوطني من مختلف الرتب و المواقع و الثكنات برّا و بحرا و جوّا. و قد كان الإعلان عن اكتشاف الإجتماع المذكور بمناسبة الندوة الصحفيّة التي عقدها وزير الداخليّة يوم 22/05/1991 منطلقا لحملة إعلاميّة و سياسيّة و أمنيّة إنجرّ عنها الزجّ بأكثر من ثلاثين ألف تونسي و تونسيّة في السجون و عزل المئات من الضبّاط و ضبّاط الصف بعضهم تمّت إحالته على التقاعد المبكّر دون أن يتعرّض لأيّة مساءلة أو مؤاخذة(111). و قد جاء الحكم ليتمخض الجبل فلا يلد حتى فأرا إذ ثبت بالدليل الساطع أنّ الإجتماع المذكور كان مجرّد دعاية لتبرير الحملة المتعدّدة الجوانب على حركة النهضة من جهة و على بعض المشكوك في ولائهم في المؤسسّات العسكريّة من جهة أخرى لضرب عصفورين بحجر واحد و لقد أكد الحكم الصادر في القضيّة عـ76110ـدد أنّ أغلب من اتهموا بالمشاركة في الإجتماع المذكور لم يحضروا يوم 6/1/1991 أيّ إجتماع بل كانوا يمارسون يومها حياتهم بصفة عاديّة بعضهم في مكان العمل و بعضهم بين عائلاتهم و ذويهم من ذلك أنّ الحكم أثبت أنّ النقيب الهادي العرفاوي المتهم بالمشاركة في الإجتماع كان يوم 6/1/1991 التاريخ المزعوم لعقد اللقاء رفقة زوجته التي كانت بصدد الولادة بأحد المستشفيات كما أثبت الحكم أنّ النقيب محجوب بريك الذي أرغمه باحث البداية على الإعتراف بحضور الإجتماع كان قائما يومها بواجب الأسبوع بالفوج 33 للمدرّعات حسبما تضمنته المكاتبة الواردة على المحكمة من رئاسة أركان جيش البرّ كما أثبتت الأحداث أنّ الرائد سامي كوردة كان يوم 6/1/1991 بين أهله و عشيرته في تونس العاصمة التي لم يغادرها طوال ذلك اليوم في حين أنّ النقيب الهادي الأجنف الذي أجبر تحت التعذيب على الإعتراف بالإنتماء لحركة النهضة و حضور اجتماع براكة الساحل كان حسبما ثبت من مكاتبة قيادة جيش البرّ يوم 6/1/1991 في مهمّة في المناطق الساحليّة و قد نوّهت الشهادة بنشاطه و قيامه بالمهمّة على أحسن وجه و لقد انتهت المحكمة إلى القضاء في حقّ المذكورين آنفا بعدم سماع الدعوة لثبوت عدم حضورهم أيّ إجتماع(112) رغم ما سجله عليهم باحث البداية من إعترافات انتزعت تحت الإكراه و التعذيب كما اعتبرت المحكمة أنّ بقيّة العسكريّين المتهمين بحضور الإجتماع المزعوم لم يثبت في حقهم القيام بأي عمل إيجابي من شأنه أن يوفّر ضدّهم أركان جريمة الإحالة علما أنّه و بمراجعة الحكم المذكور لا نجد أثرا في تعليله للإجتماع المذكور كدليل إدانة ضدّ العسكرييّن أو المدنيين.

2.14- صاروخ الستينجر

تحدّثت وسائل الإعلام كثيرا عن صاروخ ستينجر كان الهادي الغالي و من معه عازمون على جلبه للإعتداء على حياة رئيس الدولة و لكن بالرجوع إلى الحكم الصادر في القضيّة عـ76110ـدد و كذا الصادر في القضيّة عـ76111ـدد لا نجد أيّ أثر مادّي للمشروع الإجرامي المذكور إذ يتضح أنّ المسألة (هذا و لو افترضنا جدلا صحّة ما نسب لبعض المتهمين من تصريحات) لا تعدو أن تكون فكرة خطرت على بال فرد بعد إيقاف أغلب المتهمين دون أن يسعى إلى تحويلها إلى واقع و دون أن يكون قادرا على تحقيقها حتى لو رغب في ذلك لأنّه لا يتوفّر حسب الأبحاث على أيّة إمكانيّات للوصول إلى تنفيذ ما فكّر فيه إن ثبت أنّه فكّر فيه حقّا(113).

كما أثبتت الأبحاث أنّه لم يكن بيد أحد في الداخل و لا في الخارج لا صاروخ و لا حتى مسمار من بقايا صاروخ مهما كان نوعه كما لم يكن بيد أحد في الداخل و لا في الخارج ما يكفي لشرائه و لا كان أحد يعرف طريق الوصول لشرائه و لا كيف و أين يباع أصلا هذا علاوة على خلوّ محاضر أغلبيّة الموقوفين من الموضوع علاوة على أنّ من الموقوفين من تمّ إيقافه منذ نوفمبر 1990 و هو تاريخ سابق بسنتين لتاريخ ما نسب لأحدهم من تفكير في الإعتداء على حياة رئيس الدولة بواسطة هذا الصاروخ المزعوم.

3.14- المحكمة تقرّ بعدم حصول أضرار جسيمة بأمن الدولة

تمسّك لسان الدفاع بأن ملف القضية خال من كل مثبت لحصول الأضرار المزعومة من طرف وسائل الإعلام و النيابة العموميّة و التي حاولت إظهار البلاد و كأنّها على حافة حرب أهليّة طاحنة مدعية أنّ النظام كان في خطر و أنّ التهديد جدّي إلى درجة تبرير كلّ الخروقات  و التجاوزات بما في ذلك التعذيب حتى الموت كما تمسّك لسان الدفاع بأنّ مسلسل الأحداث التي حاولت النيابة و الباحث الإبتدائي سردها في محاولة لإقناع الجميع بأنّها جاءت في إطار مسعى لقلب نظام الحكم إنّما هي أحداث متفرقة و معزولة عن بعضها البعض و لا رابط بينها غير تفاعل الشارع مع أحداث الخليج في جزء منها و ردود أفعال على بعض التجاوزات المرتكبة في حقّ الطلبة و التلاميذ بصفة رئيسيّة و أنّ مثل هذه التظاهرات و التحركات مما شهدته شوارع أغلب مدن العالم و بأكثر حدّة في العديد من الأحيان دون أن يتهم منظموها بمحاولة الإعتداء على أمن الدولة الداخلي وهو ما أكدته المحكمة في الحكم الصادر بمناسبة القضية   عـ76111ـدد الذي جاء فيه ما يلي "و حيث أنّه بالنظر للظروف الحافّة بالقضية و عدم حصول أضرار جسيمة تمسّ أمن الدولة الداخلي فإنّ المحكمة لم تر مانعا في التخفيف على المتهمين نزولا به درجة أو درجتين من سلم العقوبات..."(114) وهو ما يدحض بشكل قاطع كل إدّعاء بأنّ ما حدث في البلاد خلال الفترة الممتدة بين موفّى 1990 و أوت 1992 كان خطيرا جدّا إلى درجة تهديد النظام الجمهوري و مؤسسات الدولة و كيانها كما يؤكد أنّ ما حصل من تضخيم و تهويل مرعبين للأحداث كان أمرا مدبّرا و مقصودا سعى من خلاله البعض لدفع الجميع (سلطة و معارضة) نحو الحلول القصوى لتوريطهم في مستنقع التقاتل بما يعطي الشرعية لوجودهم و هيمنتهم على كل مفاصل الحكم و مؤسساته و تشديد قبضتهم على كلّ مقدرات البلاد و خاصّة الأمنيّة و الإعلاميّة و الثقافيّة منها و الإنفراد بالحكم و إسكات كلّ صوت مخالف، وهو ما كشفت حقيقته ما عاشته البلاد من أحداث و تطوّرات خلال السنوات الأخيرة و لكن حكم المحكمة و إن قضى بإدانة المتهمين من أجل ما نسب إليهم من تهم فقد أكد أنّ دقّ البعض لطبول الحرب بدعوى مواجهة الخطر الأصولي الداهم الذي أضحى على قاب قوسين أو أدنى من افتكاك السلطة إنّما هو محض دعاية معلومة الأهداف و الغايات و النتائج فلا أمن الدولة كان مهدّدا تهديدا جديّا و لا الإسلاميين كانوا على مرمى حجر من حكم البلاد و السيطرة على مؤسسات الدولة.



(111)  يذكر الملاحظون أنّ حملة الإيقافات شملت أكثر من ستمائة عسكريّ من رتب و قطاعات و جهات مختلفة    و أمام شكّ إدارة الأمن العسكري في جديّة الأبحاث المجراة من طرف إدارة أمن الدولة و نظرا لأنّ الإيقافات طالت عددا كبيرا من كبار الضباط و خيرة إطارات الجيش و قياداته بما أضحى يهدّد بإفراغ المؤسّسة العسكريّة من أكفأ كوادرها تولت لجنة خاصّة من قيادة الجيش الحضور بمقرّات وزارة الداخليّة و استنطاق بعض كبار الضباط الموقوفين فعاينوا تعرّضهم للتعذيب و قد تمّ إثر حضور اللجنة المذكورة الإفراج عن عدد كبير من العسكريّين دون تتبّع مع حرمانهم من مباشرة وظائفهم.

(112)  الحكم عدد 76110 ص ص  225 و 226

(113)  يذكر المحالون أنّ أعوان إدارة أمن الدولة كثفوا (قبل إنطلاق المحاكمة و ليلة مثول البعض أمام المحكمة لاستنطاقهم) من الإتصال ببعض المتهمين في سجنهم و في غير أوقات العمل الرسميّة في محاولة لدفعهم على الإعتراف بارتكاب بعض الجرائم (مثل إجتماع براكة الساحل و صاروخ الستينجر) و ذلك من خلال إغرائهم بضمان أحكام خفيفة و امتيازات ماديّة عديدة مع التهديد بجولة جديدة من التعذيب و الحكم بالإعدام و تدمير العائلة في حالة الإمتناع عن الإستجابة لطلب الإعتراف و يذكر البعض منهم أنّه تمّ إقتيادهم إلى مقرّات وزارة الداخليّة فور إنتهاء المحاكمة للتنكيل بهم و تعذيبهم تشفيا و عقابا لهم على عدم رضوخهم للضغوطات.

(114)  الحكم عدد 76111